سُئِلَ أحد العلماء عن كيفية وصوله إلى تلك الدرجة العالية من الإيمان. فأجاب:
«كنتُ أيام شبابي مغروراً لا أتورع عن ارتكاب الآثام والمعاصي، وكانت لي والدة تأمرني أن أكتب كلّ ما أقترفه من ذنوبٍ وموبقات في كرّاسٍ خاص وأراجعه قبل أن أنام. التزمتُ بطلب والدتي دون أن أطلب منها تفسيراً لذلك وقلت في نفسي: ما الضير في أن أدوّن في الليل ما أعمله في النهار. بدأتُ فعلاً بتنفيذ طلب والدتي وكنتُ مساء كل يوم أراجع ما أكتب خوفاً من أن أنسى شيئاً لم أكتبه في ذلك الكرّاس. في أحد الأيام وكعادتي خرجت من البيت لا أدري إلى أين تأخذني قدماي، فرأيتُ في طريقي امرأة حسناء محتشمة ومعها بُنية صغيرة، قلتُ لِأُعاكسها لعلي أحصل على شيء وفعلاً طلبتُ منها أن تتوقفَ قليلاً لِنتحدّثَ حيث لا يَرانا مَن لا يَرانا، فَفَعَلتْ. دنوتُ منها مبتسماً وإذا بها ترتعد كالسعفة وقد اصفرّ وجهها وقالت لي: اسمع أيها الشاب المغرور، والله ما وقفتُ في حياتي هذا الموقف ولم أك يوماً امرأة سَوءٍ أبداً، ولكني ومنذ ثلاثة أيام ومعي هذه الطفلة المسكينة لم يدخل جوفنا شيء من الطعام إطلاقاً، فهلّا تصدقتَ علينا وأحسنتَ إلينا والله يجزيك خير جزاء المحسنين. تأثرتُ كثيراً لموقف هذه المرأة الصالحة وعدلتُ عن الإساءة إليها والتحرشِ بها وقلتُ لها أخبريني عن مكان سكنك وسوف آتيكِ بما قسمه الله. أعطتني العنوان وانصرفتْ آملة أن أكون صادقاً فيما وعدت. ذهبتُ إلى بيتنا وأخبرتُ والدتي بما جرى فساعدتني في جمع بعض الطعام الذي كان عندنا فذهبتُ إلى تلك المرأة وناولتها كيس الطعام دون أن أنظر إلى وجهها وانصرفتُ عائداً إلى أمي التي كانت في انتظاري. استقبلتني على غير عادتها، شكرتني على عملي وعلى محياها علامات الرضا وطلبتْ مني أن أدوّن هذه الحادثة أيضاً في ذلك الكراس الخاص. وافقتها الرأي ووعدتها أن أفعل ذلك قبل أن أنام. حان بعدها موعد النوم فأحضرتُ قلمي وأردتُ أن أسجل تلك الحادثة فإذا بي أرى الصفحات (التي كانت مليئة بذكر السيئات) بيضاء ولا توجد في أعلى كل صفحة إلّا هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلْحَسَنَٰاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّيئاتِ﴾ (71). فعاهدتُ ربي تعالى أن لا أفعل منكراً قط ما دمتُ حيّاً. بدأتُ بالاستغفار والتوبة من حينها وأكثرتُ من فعل الخيرات وعفرتُ وجهي في التراب وزهدتُ عن هذه الدنيا وتشوقتُ للآخرة ﴿وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰٓ﴾ (72) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ