هو السلطان الذي لا يكاد يعرفه أحد، فهو الأسد الجسور، والليث الهصور، والإمام الهمام، وأحد عمالقة الإسلام، أذلَّ الله به الكفر وزلزل الطغيان، وقوَّض عروش أهل الإلحاد في ربوع مملكته والأوطان، وحارب الفساد وأهله في كل مكان، وأتى على بنيان الظلم والظلمة من القواعد حتى خرَّ عليهم السقف من فوقهم! وأذاق المغرورين والمعاندين من كؤوس المرار ما انشقَّتْ له حلوقهم! وأرغم الجبابرة على الانقياد لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل المهانة والصغار على كل مَنْ أبى قبول الحق بعد أن أُقيمت عليه من الله الحجة والبرهان، وسلك بالمسلمين في أيامه سبيل الاستقامة وطريق المحجة، فكان كالبدر المشرق في سمائه، والفيض المغدق بسلسبيل رُوَائه، والناصح الأمين للخاص والعام، والمجدِّد لهذا الدين أمره في سابق الأزمان وغابر الأيام، حتى لقَّبه الشيخ الأديب علي طنطاوي بـ(بقية الخلفاء الراشدين).
فهو العابد الساهر إذا أسبل الليل رداء ظلامه على الأنام، والراكع الساجد في غسق الدجى والحارسون له نيام!
والبطل الكرار إذا طارت قلوب الشجعان في ساحة الوَغَى، والفارس المغوار الذي تُجَمُّ دونه الأُسُود إذا عَلِمَتْ أنه حلَّ بساحتهم وأتى!
ذاكم هو السلطان العظيم، والمجاهد الزاهد أبو المظفر محيي الدين محمد أورانك زيب عالمكير، سلطان مملكة شبه القارة الهندية وما حواليها في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر الهجري.
و "أُورنْك زِيْب" – ويقال "أورنج زيب" - معناها بالفارسية "زينة العرش"، فـ"أورنج" معناها: عرش، و"زيب" معناها: زينة، وأما "عالَم كير" فمعناها بالفارسية: فاتح العالم .
نشأ (أُورنك زيب) في بيت عزٍّ وترف وشرف؛ فأبوه هو السلطان شاه جيهان أحد أعظم سلاطين دولة المغول المسلمين في الهند، وهو باني مقبرة "تاج محل" الشهيرة؛ التي تعدُّ الآن من عجائب الدنيا السبع.
ظهر من أورنك زيب منذ صغره علامات الجدِّ والإقبال على الدين والبعد عن الترف والملذات وترعرع محبًّا للدين الذي استقاه على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، كما أنه جمع بين الفروسية والشجاعة؛ فكان فارسًا شجاعًا لا يُشَقُّ له غبار.
أصبح سلطانًا على البلاد وعنده من العمر 40 سنة، ولم يركن أورنك زيب إلى الدعة والراحة، بل لبس لأمة الحرب من أول يوم، وظل في جهاد دام 52 سنة حتى خضعت له شبه القارة الهندية، من مرتفعات الهيمالايا إلى المحيط، ومن بنجلادش اليوم إلى حدود إيران.
شهدت إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند في عهد أورنك زيب (1658م: 1707م) أقصى امتداد لها؛ وذلك يرجع إلى الجهود العسكرية التي بذلها السلطان أورنك زيب؛ حيث لم يبق إقليم من أقاليم الهند إلا خضع تحت سيطرة السلطان، فاستطاع أورنك زيب تحويل شبه القارة الهندية إلى ولاية مغولية إسلامية ربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها تحت قيادة واحدة، ولقد خاض المسلمون في عهده أكثر من 30 معركة؛ قاد هو بنفسه منها 11 معركة وأسند الباقي إلى قوَّاده.
أبطل أورنك زيب 80 نوعًا من الضرائب، وفرض الجزية على غير المسلمين بعدما أبطلها أجداده، وأقام المساجد والحمامات والمدارس والبيمارستانات، وأصلح الطرق وبنى الحدائق، أصبحت دهلي في عهده حاضرة الدنيا، وعين القضاة وجعل له في كل ولاية نائبًا عنه، وأعلن في الناس أنه "مَنْ كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه".
وأظهر أورنك زيب تمسُّكه بالإسلام والتزامه بشرائعه؛ فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية؛ مثل عيد النيروز، ومنع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، ومنع الخطب الطويلة التي تقال لتحية السلطان، واكتفى بتحية الإسلام، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، ورُوي في ذلك قصة: أنه كان يومًا خارج قصره فرأى الموسيقيين والقينات يلبسون السواد ويبكون ويحملون نعشًا، فسأل: ما هذا؟ قالوا: هذا الغناء والمعازف نذهب لدفنها. فقال رحمه الله: إذن أحسنوا دفنها لئلاَّ تقوم مرة أخرى!!
وأتمَّ السلطان حفظ القرآن الكريم وهو يجلس على كرسي الحكم، وعين للقضاة كتابًا يفتون به على المذهب الحنفي، فأمر بتأليف الكتاب تحت نظره وإشرافه، واشتهر الكتاب باسم "الفتاوى الهندية"، أو "الفتاوى العالمكيرية"، يعرفه كل طلبة العلم.
ثم أقدم على بناء مسجد "بادشاهي" في لاهور بباكستان الآن؛ المسجد الذي ظلَّ إلى الآن شاهدًا على عصر عزِّ المسلمين وتمكينهم، وقضى على فتنة البرتغاليين في المحيط، وكان رحمه الله يصوم رمضان كاملاً ولا يفطر إلا على أرغفة من الشعير من كسب يمينه من كتابة المصاحف لا من بيت مال المسلمين!
لم يستطع أن يحج إلى بيت الله الحرام؛ فقام بكتابة مصحفين بخط يده، أرسل واحدًا إلى مكة والآخر إلى المدينة!
وكان صاحب عبادة عظيمة، ويخضع للمشايخ ويُقَرِّبهم ويستمع إلى مشورتهم ويعظم قدرهم، وأمر قواده أن يستمعوا إلى مشورتهم بتواضع شديد؛ حتى إنه سمع أن نائبه بالبنغال اتخذ مثل العرش يجلس عليه، فنهره وعنفه، وأمره أن يجلس بين الناس كجلوس عامتهم!
وكان يصوم الاثنين والخميس والجمعة من كل أسبوع لم يتركها قطُّ، وكان يأبى إلا أن يُصَلِّيَ الفرائض كلها في وقتها جماعة مع المسلمين، وكان يُصَلِّي التراويح إمامًا بالمسلمين، ويعتكف العشر الأواخر في المسجد، فكان أعظم ملوك الدنيا في عصره.
وخصَّص موظَّفين يكتبون كلَّ ما يقع من أحوال رعاياه ويرفعونه إليه، وأبطل عادة تقديم الهدايا إليه كما كان يُفعل مِنْ قَبْلُ مع أسلافه، وكان يجلس للناس ثلاث مرَّات يوميًّا دون حاجب يسمع شكاواهم.
ووُفِّقَ إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين:
الأول: أنَّه لم يكن يُعطى عالمًا عطية أو راتبًا إلا طالبه بعملٍ؛ بتأليف أو بتدريس، لئلاَّ يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلا حقٍّ وكتمان العلم!
الثاني: أنَّه أوَّل من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد، يُتَّخذ قانونًا فوضعت له وبأمره وبإشرافه وتحت ناظره كتاب "الفتاوى الهندية – العالمكيرية" على المذهب الحنفي.
دخل ملايين من المنبوذين في الهند في الإسلام، ووقف حائلاً أمام المد الشيعي الصفوي على البلاد، وألَّف كتابًا شرح فيه أربعين حديثًا شريفًا على غرار الأربعين النووية.
وتوفي السلطان أورنك زيب عالمكير في (28 من ذي القعدة 1118هـ الموافق20 من فبراير 1707م) بعد أن حكم 52 سنة، وكان قد بلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر للمسلمين، وألا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات!!
وبوفاة السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك زيب عالمكير, انتهت عظمة دولة المسلمين في الهند فجاء من بعده حكام ضعاف، وظلَّ الأمر كذلك حتى انتهت تمامًا بسقوط آخر سلطان بهادر شاه الثاني عام 1857م بواسطة الإنجليز, ولم تقم للإسلام قائمة منذ ذلك الزمن في تلك البلاد الشاسعة.
المصادر:
رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي (227: 237).
سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر للمرادي ( 4/113 ).
تاريخ الإسلام في الهند لعبد المنعم النمر (286: 288).